
حسن بيريش.
(1)
"يا امرأة تجزأ فيها الجرح، غادرت ساعاتها
بعد رحيل مرتقب لأغنية مجنونة.
يشهد قمر نيسان على شعلة رميت بها
في شغاف التمرد، أتحسس الٱن قطرات الندم".
بين فاصلة التجلي، ونقطة الغوص، جاءت أسماء المصلوحي حاملة باقة من "فواصل أنثوية". ومنذ العتبة الأولى، أدركنا أنها ستكشف عن تجاعيد واقع في وجوه أنثوية، وعن بشرة اصفرت لفرط الأسى الساكن في الغور.
باقة / سلسلة تضع الأنوثة في أعالي السفور، كي تكشف كل الندوب التي تصيب قلوب وأجساد النساء، وهن يعشن بقلب وعقل في تجارب عاطفية منهكة للروح.
هنا أنثى تتكلم عن إناث أضعن الطريق نحو الٱخر، لأنهن بلا ذنب اقترفه الحب، وجدن مشاعرهن عالقة في فراغ موحش كان ملء الانجذاب ذات اندفاع.
(2)
"في مذهب التعلق نحتاج إلى طلاسيم
نفك بها إساءة الآخر، لنطرد ما تبقي
من وحشة الزمن الجميل.
كلما اكتوينا بنار اللهفة نبكي على أطلال
فقدناها في رمشة تكبر".
تمتح أسماء المصلوحي، هذه الكاتبة ذات القلب الكاتب، من ٱبار قصية لحكايا دفنها اليأس في ساعة نفور من حب كان أقصر من الحلم، وأبطأ من الشغف.
هنا لغة على شكل شلال يتدفق بسلاسة الماء، ويجري بإذن القلب، ويصب في عوالم قدت من رهافة. وهي لغة راقصة، ممشوقة الدوال، مشرقة المخيال، تنبع من ذات كاتبة ليس فيها غير رقة العبارة، وليس بها سوى عبارة الرقة.
وأنا أقرأ لها نصوص "فواصل أنثوية"، أتخيلها تكتب بكلية جسدها، وأقاصي عينيها، ومزن الكلم، الذي يجتاحها لحظة التنزيل، فترسله إلينا غدقا، وأي غدق.
(3)
"يا إلهي، رتق التجاوز يحتم علينا المكوث
في أعلى سفح من الود.
كل المحطات تغلق قبل الإياب الأخير،
ما عدا الرحيل،
إنه بوابة مشرعة في وجه الاستسلام".
هي لا تكتب، بل تزرع، وحصادها هذه الشحنة من الدلالات التي تشع من جملها وعباراتها. شحنة تصلنا من أول عبارة، وتمسك بتلابيبنا من أول معنى.
إنه ذاك السفور المحتجب، الذي يظلل نصوصها، ويهبها ذاك الانجذاب المدهش.
إنها - أسماء التجلي هذه - مغوية درجة دفعك إلى المكوث في كتاباتها حتى بعد أن تغادر هي كتاباتها.
(4)
"في الحب نفتش عن بقايا
تهفو إليها الروح،
نصفق لتمثيلية خططنا لكل شخوصها،
وتركنا الدمع يهطل دون سابق كلام".
أسماء المصلوحي - وهنا تميزها الكبير - تكتب تاريخ القلوب التي لم تعد قلوبا. تاريخ تٱمر فيه الحب والذاكرة، معا، لكي يتم نفي نساء من خارطة البقاء.
أحيانا، وأنا أقرأ لأسماء، أتخيل انها لا تكتب إلا وفي حبرها رغبة واحدة لا أكثر:
إسقاط الجنسية عن مواطن الحب !!
(5)
"إنه القدر، تداعبه عنوة امرأة ذابلة، متناعسة،
لم يعد يعنيها الوقوف كثيرا أمام المرآة.
تجاعيد الوداع تضفي عليها رونقا رشيقا على
ملامحها البريئة من كل شيء إلا الحيرة".
المرٱة شكل ٱخر من لذائذ الذات. ولعل انعكاس أغوارنا على صفحتها البراقة، ليس سوى صورة محدبة لوهمنا الداخلي، لذلك، تكون بارعة أسماء حين تكسر المرٱة كي تجعل أنثاها تقف أمام حقيقتها، لا في مهب وهمها.
(6)
"على مرمى من الزمن،
تقف تنهيدات الروح،
تسأل بأي ذنب كان لها
كل هذه التمنيات الباهتة ؟!".
على مرمى تأثيثها للكلم، وفي شباك دهشتنا من نباهة رؤاها، نتمسك بما تحكيه، ونؤمن بما تكفر به، نسير معها من حكاية إلى حكاية، وفي بالنا شيء واحد:
إنها، أسماء المصلوحي، تزج بنا في معتقلات القلب بدون أي محاكمة عادلة ومشروعة !!
(7)
"الإحساس بالوجيعة يأتيك
بعدما تخرج كل الإبر المغروسة بعناية
في تاريخ ذاكرتك".
حتى ذاك الوجع، الذي يؤسس لسلسلة بوحها، يصبح رهافة تتسع لجنون رؤاها، ويغدو حلما ينسجم مع واقعها، وبذلك هي تضع ذاكرة النساء المنهكات إزاء نسيان عصي، كما هي تلوح بنسيان النساء لتمسك بذاكرة رحيلهن.
وما الرحيل ؟!
وما البقاء ؟!
إنهما ذاكرة نسيان، ونسيان ذاكرة، ولا عزاء للقلب إلا القلب، ولا دوام للحب إلا الحب.
(8)
"أيتها المرأة الجميلة
حذاري من لمس ما تبقى من عذرية فهمك،
قليل من الغباء يصلح لمحو ما تبقى
من سهاد الصبر".
وأن تقومي بتشريح ما ليس متبديا لدى النساء، يلزمك أن تكوني بقلم أسماء، ورؤية أسماء، وذكاء قلب أسماء. لذلك، تجيء نصوصها حمالة لتميز لا يأفل مهما أعدت قراءتها، لا تقبض، أنت، في نهاية تأويلك، سوى على الشروق.
من هنا، أجدني - أنا القارىء لها - كلما ابتعدت عن نصوصها اقتربت أكثر، وكلما كنت في كتاباتها ترجيت عدم المغادرة، ليس لأنها تقبض علي، بل لأني أرجو ان تقبض علي.
(9)
"تحترق شمعة الانتظار،
نحاول غض النظر عن الذي يؤلمنا،
وبغتة تتضح الرؤية،
ثم ندرك أن كل ما قلناه لا يستحق الإصغاء".
إلى صنف كاتبات يخترقن محظور الدواخل، ويفتشن مخبأ السرائر، تنتمي الكاتبة أسماء المصلوحي.
إنها لا تعبأ بتخوم الأشياء، وضفاف المشاعر، بل تغرق عميقا في لجج الأحاسيس، وعواصف القلوب، فتأتي كتاباتها كأنها من بعيد القريب، أو قريب البعيد.
(10)
"كل خفقة إذا بدأت بصدفة
انتهت باثنين لا ثالث لفراقهما".
إن خفقة النص لا تأتي صدفة. وإن صدفة الخفقة دوما تجيء بموعد لا تاجيل له.
أجل:
اثنان نحن.
أنت، أيتها الكاتبة الرائعة، ونحن، قراء روائع نصوصك، وأبدا لا ثالث لفراقنا.